فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
وساعة ينادي الحق عزّ وجلّ عباده المؤمنين، فهو سبحانه إما أن يناديهم بحكم يتعلق بالإيمان، وإما أن يناديهم بالإيمان ويطلب منهم الإيمان مثل قول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ...} [النساء: 136].
والحق سبحانه يُبيّن للذين آمنوا به قبل أن يخاطبهم، أنه من الممكن أن يؤمن الإنسان ثم يتذبذب في إيمانه، فيطلب منه الحق دوام الإيمان. فإذا طلب الله من عباده ما كان موجودًا فيهم ساعة الخطاب، فالمطلوب دوامه، وإن طلب منهم حكمًا يتعلق بالأيمان، فهو يوجّههم إلى الاستماع وتطبيق ما يطلب منهم، ومثال هذا قول الحق سبحانه: {اتقوا الله} [التوبة: 119].
وكلمة {اتقوا} تعني: اجعلوا بينكم وبين الله وقاية، ويتساءل البعض: هل يطلب أحد من الإنسان أن يجعل بينه وبين وقاية؟ إن العبد المؤمن يطلب أن يكون في معيَّة الله. وهنا تأتي ضرورة فهم صفات الجمال وصفات الجلال. إن قوله سبحانه: {اتقوا الله} يعني: اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية، مثلما قال سبحانه: {اتقوا الله} [البقرة: 24].
لأن النار من جنود صفات الجلال، فاجعلوا بينكم وبين الله وقاية من صفات الجلال.
وهنا يقول الحق: {اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين}، وفسر بعض العلماء قوله: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} بمعنى كونوا من الصادقين، أي: أن {مع} هنا بمعنى {من} والمقصود أن يعطي هذا القول معنى إجماليًّا عامًّا. لكني أقول: هنام فرق بين {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} و{كونوا من الصادقين}، فقول الحق: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي: التحموا بهم فتكونوا في معيّتهم وبعد أن تلتحموا بهم يأتي الذين من بعدكم ويجدونكم مع الصادقين.
ويقتضي الأمر هنا أن نتذكر ما سبق أن قلناه عن النسبة الكلامية والنسبة الذهنية، فأيُّ قضية تمر على ذهنك قبل أن تقولها هي نسبة ذهنية، مثل قولك: محمد زارني، وأنت قبل أن تقول هذه العبارة جاء في ذهنك أن تنطقها، وهذه نسبة ذهنية. ومن يسمعك لا يدري بها، ولكونك المتكلم فأنت وحدك الذي تدري بها، فإذا ما نطقتها وسمعها منك المخاطب؛ علم أن نسبة ذهنية جاءت في ذهنك فترجمتها قولًا بالنسبة الكلامية. فحين قلت: محمد زارني بالأمس؛ جاءت في ذهنك قل أن تقولها، فلما سمعها السامع عرف أن هناك نسبتين؛ نسبة سمعها عن نسبة عندك.
وحين يمحّص السامع هذا القول؛ يعلم أن هناك واحدًا في الواقع اسمه محمد وعلم منك أنه قد زارك، وخبرته معك أنه قد زارك، وخبرته معك دائمًا أنك صادق، إذن: فالصدق هو أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع. أما إذا قلت: إن محمدًا قد سافر إلى أمريكا، وهو لم يسافر، فهذا يعني أن النسبة الكلامية لم تتطابق مع النسبة الواقعية وهذا هو الكذب.
إذن: فهناك نسبة ذهنية ونسبة كلامية ونسبة واقعية. فإن تطابقت النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية، فذلك هو الصدق، وإن لم تتطابق يكون الكذب.
وكل نسبة تقولها تحتمل أن تكون صادقة أو كاذبة، والفيصل في هذا الأمر هو الواقع، هل يتطابق ما تقول أم لا؟. أما إن قلت لك: زُرْ فلانًا فهذه نسبة إنشاء؛ لأن الواقع يأتي بعدها، لا قبلها.
وهنا يقول الحق سبحانه: {اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} والصدق هو الخَلَّة التي تجمع كل الإيمان، ولنر التطبيق لذلك في قصة الرجل البدوي الذي ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن فيَّ خلالًا ثلاثة لا أقدر على التخلِّي عنها أبدًا، أما الأولى فهي النساء، وأما الثانية فهي الخمر، وأما الثالثة فهي الكذب، وقد جئتك يا رسول الله، لتختار لي خصلة من الثلاثة وتقوِّيني عليها، وأعاهد ربنا عليها. فاختار رسول الله للأعرابي أن يتوب عن الكذب، وأن يتحلّى بالصدق، فقال له: كن صادقًا وما عليك. وحين أحب الأعرابي أن يشرب كأس خمر؛ تساءل: وماذا إن سألني النبي صلى الله عليه وسلم أشربت الخمر؟ وامتنع عن الخمر حتى لا يكذب على الرسول. وحين جاء ليختلس النظر إلى امرأة؛ قال لنفسه: وماذا إن سألني صلى الله عليه وسلم وكيف أُخزي نفسي بصفة لا تليق بمسلم؛ فامتنع عن النظر إلى المحارم، وهكذا سيطر الصدق على الرجل فهذّب سلوكه. وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا؟ فقال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ فقال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ فقال: لا. لأن مدخل الإيمان هو التصديق بالقضية العقدية الجازمة، وهكذا تجد أن الصدق هو رأس الأمر كله.
وقول الحق: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي: لا تقولوا كلامًا لا يصادفه الواقع، وكذلك إياكم أن تقولوا كلامًا تناقضه أفعالكم، لهذا يقول الحق سبحانه: {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].
وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وَفِي الرقاب وَأَقَامَ الصلاوة وَآتَى الزكاوة...} [البقرة: 177].
ولننتبه إلى الملاحظ الدقيقة في هذه الآية، فقد قال الحق هنا: {وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى} [البقرة: 177].
ثم ذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلماذا إذن ذكر {وَآتَى المال}؟ أقول: لقد ذكر الحق هنا المال الذي ينفقه المؤمن دون أن يكون مفروضًا عليه إخراجه مثل الزكاة، فالزكاة واجبة، أما إيتاء المال تصدقًا، فهذا فوق الواجب.
ثم يقول سبحانه: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأساء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177].
هذه هي صفات من صدقوا، وهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد تصدقوا واتقوا.
{يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} [التوبة: 119].
وقد جاء الحق بصفة الصدق هنا؛ لأن المجال هو الحديث عمن تخلّف عن الغزوات، وكذب في الأعذار التي افتعلها؛ لذلك يأتي التوجيه السماوي أن ادخلوا من باب الصدق. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
التفسير: لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقًا به، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد والتغريب فيه فقال: {إن الله اشترى} الآية.
قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة- وهم سبعون نفسًا- قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.
قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت {إن الله اشترى} الآية.
قال مجاهد والحسن ومقاتل: ثامنهم فأغلى ثمنهم. وقال جعفر الصادق عليه السلام: والله ما لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها. واعلم أن هذا الاشتراء وقع مجازًا عن الجزاء لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والعبد وما يملكه لمولاه. ولهذا قال الحسن: اشترى أنفسًا هو خلقها وأموالًا هو رزقها. والمراد بأنفسهم النفوس المجاهدة وبأموالهم التي ينفقونها في أسباب الجهاد وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم على الوجه المشروع. وههنا نكتة هي أن قيم الطفل له أن يبيع مال الطفل من نفسه بشرط رعاية الغبطة، ففي هذه الآية البائع والمشتري هو الله ففيه تنبيه على أن العبد كالطفل الذي لا يهتدي إلى مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه حتى يوصله إلى أنواع الخيرات وأصناف العادات. وبوجه آخر الإنسان بالحقيقة عبارة عن الجوهر المجرد الذي هو من عالم الأرواح وهذا البدن وما يحتاج إليه من ضرورات المعاش كالآلات والوسائط لتحصيل الكمالات الموصلة الى الدرجات العاليات؛ فالبائع هو جوهر الروح القدسي، والمشتري هو الله، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني، والعوض الآخر الجنة الباقية والسعادات الدائمة، فالربح حاصل والخسران زائل ولهذا قال: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} وفي قوله: {يقاتلون} معنى الأمر كقوله: {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} [الصف: 11] وهو كالتفسير لتلك المبايعة {فيقتلون ويقتلون} أي إنهم يقتلون الكفار فلا يرجعون عنهم حتى يصيروا مقتولين. ومن قرأ بتقديم المجهول فمعناه أن طائفة منهم إذا صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعًا للباقين عن المقاتلة بقدر الإمكان. ومن العلماء من خصص هذا الوعد بجهاد السيف لظاهر قوله: {يقاتلون}. والتحقيق أن كل أنواع الجهاد يدخل فيه لأن الجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل أثرًا من القتال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام: «لأن يهدي الله على يدك رجلًا خير لك مما طلعت عليه الشمس» ولأن الجهاد بالسيف لا يحسن إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة، ولأن الإنسان جوهر شريف فمتى أمكن إزالة صفاته الرذيلة مع إبقاء ذاته الشريفة كان أولى من إفناء ذاته، ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعًا به من بعض الوجوه حث الشرع على إبقائه فقال: «هلا أخذتم اهابها فدبغتموه فانتفعتم به» قوله: {وعدًا عليه} قال الزجاج: إنه منصوب بمعنى قوله: {بأن لهم الجنة} كأنه قيل: وعدهم الجنة وعدًا فهو مصدر مؤكد، وكذا قوله: {حقًا} أو هو نعت للمصدر مؤكد وما الذي حصل {في التوراة والإنجيل والقرآن} قيل: وعد المجاهدين على الإطلاق، وقيل: ذكر هذا البيع لأمة محمد، وقيل: الأمر بالقتال {ومن أوفى} استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد {من الله} لأنه الغني عن كل الحاجات القدر على كل المقدورات. وفي الآية أنواع من التوكيدات فأولها قوله: {إن الله اشترى} وإذا كان المشتري هو الإله الواجب الذات المتصف بجميع الكمالات المفيض لك الخيرات فما ظنك به، ومنها أنه عبر عن إيصال الثواب بالبيع والشراء حتى يكون حقًا مؤكدًا. ومنها أنه قال: {بأن لهم الجنة} بحرف التحقيق وبلام التمليك دون أن يقول بالجنة. ومنها قوله: {وعدًا} و{إنه لا يخلف الميعاد}.
ومنها قوله: {عليه} وكلمة على للوجوب ظاهرًا. ومنها قوله: {حقًا} وهو تأكيد التحقيق. ومنها قوله: {في التوراة والإنجيل والقرآن} وإنه يجري مجرى الإشهاد لجميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل هذه المبايعة. ومنها قوله: {ومن أوفى بعهده من الله} وفيه تنبيه على أنه لا يكذب ولا يخلف ألبتة. ومنها قوله: {فاستبشروا} والبشارة الخبر الصدق الأول. ومنها قوله: {وذلك هو الفوز} ثم وصف الفوز بـ {العظيم} واعلم أن هذه الخاتمة تقع على ثلاثة أوجه: أحدها {ذلك الفوز} بغير هو وإنه في ستة مواضع: في براءة موضعان، وفي النساء والمائدة والصف والتغابن وما في النساء بزيادة واو. والآخر {وذلك هو الفوز} بزيادة هو وذلك في ستة مواضع أخرى في براءة موضعان ويونس والمؤمن والدخان والحديد وما في براءة أحدهما بزيادة الواو وهو خاتمة هذه الآية، وكذلك ما في المؤمن.
وسبب هذا الاختلاف أن الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخٍ بنزول جاءت مربوطة إما بواو العطف وإما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى وإما بإشارة فيها إليها. وربما جمع بين الشيئين منها والثلاثة للدلالة على المبالغة. وقد جمع في هذه الخاتمة بين الثلاثة لغاية التوكيد والمبالغة، أو لأنه ذكر الكتب الثلاثة فكل رابطة في مقابلة كتاب واحد. وكذلك في المؤمن وقع الثلاثة في مقابلة ثلاثة أدعية {فاغفر} {وقهم} {وأدخلهم} قال أبو القاسم البلخي: لابد من حصول الأعواض على الآلام للأطفال والبهائم قياسًا على ما أثبته الله تعالى للمكلفين من العوض على ألم القتل وهو الجنة.
ثم ذكر أن حكم سائر المؤمنين كذلك فقال: {التائبون} قال الزجاج: إنه مبتدأ محذوف الخبر أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضًا وإن لم يجاهدوا كقوله: {وكلًا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] وقيل: التائبون رفع على البدل من الضمير في {يقاتلون} وقيل: مبتدأ خبره {العابدون} وما بعده أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. أما تفسير هذه الأوصاف فقد قال ابن عباس والحسن: التائبون هم الذين تابوا من الشرك وتبرأوا عن النفاق. ومال آخرون الى التعميم ليشمل المعاصي أيضًا إذ لا دليل على التخصيص {والعابدون} قال ابن عباس: هم الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم. وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء، والعبادة لا شك أنها عبارة عن نهاية التعظيم وغاية الخضوع. وقال قتادة: وهم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. و{الحامدون} هم الذين يقومون بحق شكر نعم الله ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم، وذلك أن الحمد ذكر من كان قبل آدم لقول الملائكة {ونحن نسبح بحمدك} [البقرة: 30] وذكر أهل الدنيا يقولون في كل يوم سبع عشرة مرة الحمد لله رب العالمين، وذكر من يكون بعد خراب الدنيا لقوله: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] و{السائحون} قال عامة المفسرين: هم الصائمون لقوله: «سياحة أمتي الصيام» ثم قيل: هذا صوم الفرض. وقيل: الذين يديمون الصيام.